[size=33]ومن خلال ذلك، نستلهم الفكرة الإيمانية التي ترتكز على تآخي الموجودات في حركة الوجود. وهذا ما نتمثّله في التطلّع الإيماني الذي ينطلق به الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) عندما يتطلع إلى الصباح، وهو يستقبل الكون كلّه في شروق الشمس، فيشعر بوحدة الإنسان مع الكون كلّه بين يدي اللّه، وفي قبضته وتدبيره، في دعاء الصباح والمساء:[/size]
[size=33]«أصبحنا (أو أمسينا) وأصبحت الأشياء كلّها بجملتها لك، سماؤها وأرضها وما بَثَثْت في كلّ واحدٍ منهما، ساكنه ومتحرّكه ومقيمه وشاخصه، وما علا في الهواء وما كَنّ تحت الثرى.[/size]
[size=33]أصبحنا في قبضتك، يحوينا ملكك وسلطانك، وتضمّنا مشيّتك، ونتصرّف عن أمرك، ونتقلّب في تدبيرك، ليس لنا من الأمر إلاَّ ما قضيت، ولا من الخير إلاَّ ما أعطيت»
[6].[/size]
[size=33]وهذا هو المفهوم الثاني من التصوّر الإسلامي للعقيدة باللّه، فهو ربّ العالمين، أي: «ربّ الوجود». وهو الربّ الذي يرعى خلقه ويقودهم إلى ما فيه هداهم، ويحقّق لهم التوازن والتكامل في دائرة الوجود الخاص أو العام.[/size]
[size=33][الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ] . وقد تقدّم الحديث عن ملامح هاتين الكلمتين في معناهما، أمّا موقعهما في هذه السورة، فلعله كان بلحاظ الإيحاء بأنَّ الربوبية الشاملة تنفتح على الخلق، ولا سيما الإنسان، من خلال الرحمة الواسعة التي تتسع لتشمل الخلائق كلّهم، ليقفوا أمامه في أملٍ كبيرٍ ورجاءٍ عظيمٍ، على هذا الصعيد، ليتوازن الشعور لديهم بين الخوف، من خلال وحي الربوبية الشاملة، وبين الرجاء، من خلال وحي الرحمة الواسعة.[/size]
[size=33]* * *[/size]
مالك يوم الدِّين:
[size=33][مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] ، يوم الدين: أي: يوم الجزاء أو الحساب. هذه الفقرة تدل على إحاطة اللّه تعالى وسيطرته على هذا اليوم الذي يقوم النّاس فيه لربّ العالمين، لينطلق التصوّر في جولةٍ واسعةٍ في ساحة المسؤولية التي يتحملها الإنسان في حياته بين يدي اللّه، في ما كلّفه اللّه به من إطاعة أوامره ونواهيه، لأنَّ ذلك هو طبيعة وجود يوم الجزاء، لأنَّ الجزاء لا يكون إلاَّ على الطاعة أو المعصية، كما أنَّ يوم الحساب يفرض وجود يوم للعمل. وهكذا ينفتح الإنسان على ربِّه المالك ليوم الجزاء ليخاف عقابه من موقع عدله، أو ليرجو ثوابه من موقع رحمته، ليقترب منه في ساحات الخضوع والخشوع من خلال معرفته بالمصير الأخروي الذي يحمل إليه السعادة الدائمة أو الشقاء الخالد.[/size]
[size=33]وهكذا تتحرّك هذه الآيات الثلاث لتدفع بالإنسان إلى حمد اللّه تعالى في ما هو التصوّر للربوبية المهيمنة على العالمين، وللرحمة الشاملة الواسعة على كلّ آفاق حياتهم، وللمالكية المطلقة ليوم الجزاء الذي يقوم النّاس فيه لربّ العالمين، ليبعث فيهم الشعور بالرغبة أو الرهبة.[/size]
[size=33]وهذه نقلةٌ بيانيّةٌ في أسلوب السورة الذي ينقل الجوّ من الغَيْبة في حديث الإنسان عن اللّه في حمده له وتعداده لصفاته، إلى الخطاب الذي ينطلق فيه الإنسان المؤمن باللّه، الحامد له، المنفتح على عظمته، من خلال انفتاحه على صفاته في ربوبيته للعالمين، ورحمته لهم، وسيطرته على مواقع الجزاء في مصيرهم، ليخاطب اللّه في موقف التزامٍ ودعاء، وذلك أنَّ هذا النوع من التطلّع الإيماني الفكري للّه، في صفات عظمته ورحمته، يجسّد في وعي الإنسان الحضور الإلهي، كما لو كانت المسألة في دائرة الإحساس الطبيعي في عمق ذاته، تماماً كما هي الصدمة الفكرية التي تتحول إلى انطلاقةٍ شعوريةٍ بين يدي اللّه، ليعبّر له عن إخلاصه في العبودية، وعن توحيده في العبادة وفي الاستعانة، فلا يعبد غيره من موقع أنّه لا يعترف بالألوهية لغيره، ولا يقر بالعبودية لسواه، فهو وحده الإله الذي يستحق العبادة، وهو ـ وحده ـ القادر على الإعانة، على أساس أنه الذي يملك الأمر كلّه، فلا يملك غيره معه شيئاً، ما يجعل الخلق كلّه عاجزاً عن تقديم ما لا يريد اللّه أن يقدّمه من عونٍ لنفسه وللآخرين من حوله.[/size]
[size=33]وهذا الأسلوب القرآني الرائع، يجعل مسألة التصوّر تطل على الانفتاح الفكري المنطلق في أجواء التأمل الروحي، وتمثّل حركةً في مسألة الخطاب الإيماني، فيما هو الإقرار الشعوري في الالتزام العقيدي. وهذا هو ما نريد أن نتمثّله في الخطّ التربويّ الذي يتحرّك في اتجاه تحويل الحالة الفكرية إلى حالةٍ شعورية، من أجل الوصول إلى مضمون الإيمان الذي هو الوجه الشعوري للمضمون الفكري.[/size]
* * *
إياك نعبد وإياك نستعين:
[size=33]وقد نحتاج إلى الإطلالة على خصوصية التعبير عن الالتزام بعبادة اللّه، والاستعانة به، بطريقة تقديم المفعول به على الفعل والفاعل الذي ينفصل فيه الضمير، فيتحول من ضميرٍ متصلٍ في ما يتمثّل في كلمةٍ «نعبدك» «ونستعينك»، إلى ضميرٍ منفصلٍ يتقدّم على الفعل وذلك في جملة: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ". وهذه الخصوصية هي الحصر الذي يدلّ عليه تقديم المفعول على الفعل ليكون المعنى هو حصر العبادة باللّه، والاستعانة به، وذلك من أجل التعبير عن التوحيد العملي الذي هو التجسيد الواقعي للتوحيد الفكري العقيدي، فقد لا يكفي في الإسلام، كما في كلّ الرسالات التوحيدية، أن يعيش الإنسان العقيدة في دائرتها التصورية، بل لا بُدَّ له من أن يعيشها في دائرتها العملية، فيما هي حركة العبادة في الذات، وفيما هي مسألة الارتباط باللّه، المشدود إليه في أوضاع الحياة. بل ربما نجد أنَّ هناك نوعاً من الوحدة بين الجانب النظري والجانب العملي في دعوة الرسالات، بحيث يكون التوحيد في العبادة هو الواجهة للدعوة في ما تختزنه من التوحيد في العقيدة.[/size]
[size=33]وهذا ما حدّثنا عنه في دعوة نوح وهود وصالح (ع) التي اختصرتها الفقرة التالية في قوله تعالى: {اعْبُدُواْ اللّه مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].[/size]
[size=33]ولعلّ هذا هو التعبير الحركي الذي انطلقت فيه سورة الفاتحة من أجل تأكيد الدعوة إلى التوحيد في أسلوب الإقرار الذاتي الذي يندفع فيه الإنسان المؤمن، كحالةٍ شعورية ذاتيةٍ، بعيداً عن الجانب التقريري في هذه المسألة العقيدية المهمّة، ما يترك تأثيراً إيجابياً على حركة العقيدة أكثر مما يتركه من التأثير في الأسلوب الخطابي أو التقريري، في ما يمثّله من التعبير عن الصورة في وجودها الواقعي الذي يفرض التوحيد كحقيقةٍ متحركةٍ متجسدةٍ، لا كفكرةٍ ذهنيةٍ في مرحلة الدعوة.[/size]
[size=33]وهناك نقطتان لا بُدَّ من الحديث عنهما بشكلٍ تفصيلي:[/size]
[size=33]الأولى: مفهوم العبادة.[/size]
[size=33]والثانية: مقياس التوحيد والشرك فيها في الدائرة التطبيقية العملية.[/size]
* * *
مفهوم العبادة:
[size=33]قد تفسر العبادة بمعانٍ ثلاثة ـ في اللغة ـ:[/size]
[size=33]الأول: الطاعة. ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَـانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يس:60] فإنَّ عبادة الشيطان المنهي عنها في الآية المباركة هي إطاعته.[/size]
[size=33]الثاني: الخضوع والتذلّل. ومنه قوله تعالى: {فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَـابِدُونَ} [المؤمنون:47] أي خاضعون متذلّلون.[/size]
[size=33]الثالث: التألّه. ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّه وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} [الرعد:36].[/size]
[size=33]وإلى المعنى الأخير يُصرف هذا اللفظ في العرف العام إذا أطلق دون قرينةٍ.[/size]
[size=33]وقد نلاحظ أمام هذا الحديث عن التنوّع في المعاني، أنها تنطلق من معنى واحد، وهو الخضوع المطلق الذي يختزن في داخله معنى الاستسلام للمعبود والذوبان فيه والانسحاق أمامه، حتى ليحتوي في حالته الشعورية الإحساس بشيءٍ من الألوهية أو بالألوهية كلّها في ذات المعبود. فليست العبادة هي الخضوع ولا الطاعة ولا التألّه، ولكنَّها المعنى الذي يشمل ذلك كلّه في خصوصيةٍ مميّزةٍ.[/size]
[size=33]في ضوء ذلك، يمكن فهم قول الإمام الحسين (ع): «النّاس عبيد الدنيا والدِّين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلّ الديّانون»
[7].[/size]
[size=33]فإنَّ عبادة النّاس للدنيا تنطلق من استغراقهم فيها، حتى كأنهم يمنحونها صفة الإله في استسلامهم المطلق لكلّ شهواتها ومتطلباتها، كما لو كانت إلهاً معبوداً. وهذا من التألّه الخفيّ الذي قد لا يستشعره الإنسان في وعيه، لكنَّه يختزنه في المنطقة الخفية في ذاته. كما نستوحي ذلك من قوله تعالى: [أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ] [الجاثية:23].[/size]
[size=33]فإنَّ اعتبار الهوى إلهاً، ينطلق من عمق الاستغراق فيه، كما لو كان هو الذي يحتوي الوجود بحيث لا يبصر الإنسان غيره، ولا يندفع إلاّ نحوه، ولا يلتزم إلاَّ به، حتى يستولي على كلّ ذاته.[/size]
[size=33]وقد نستفيد ذلك من الكلمة المأثورة: «فمن أطاع ناطقاً فقد عبده، فإن كان الناطق ينطق عن اللّه تعالى فقد عبد اللّه، وإن كان ينطق عن غير اللّه فقد عبد غير اللّه»
[8]، بما يوحيه ذلك من الاستغراق المتمثّل بالإصغاء الذي يستولي على الفكر والشعور، بحيث يفقد الإنسان إرادته معه.[/size]
* * *
مقياس التوحيد:
[size=33]والسؤال المطروح في مسألة التوحيد في العبادة هو: كيف يتمثّل في الممارسات؟[/size]
[size=33]فهل يتمثّل ذلك في الابتعاد، في صورة العبادة الشكلية، عن كلّ الأشكال التي جرت عليها التشريعات العبادية في طريقة عبادة اللّه، فيكون الركوع أو السجود أو الانحناء لغير للّه لوناً من ألوان الشرك، حتى إذا كان ذلك بعنوان الاحترام أو التحية أو ما إلى ذلك، مما لا يبتعد فيه الإنسان عن الإحساس بإنسانية الذات التي يقدّم إليها الاحترام أو تلقى إليها التحية؟[/size]
[size=33]أو هو يتمثّل في الابتعاد عن الاستغراق في الشخص، بحيث يوجه الخضوع إليه، في أشكاله المتنوّعة، من خلال الأسرار الإلهية المخزونة في ذاته، بحيث تجعله واسطةً بين النّاس وبين اللّه، لتكون عبادتهم له من أجل الحصول على وساطته في القرب من اللّه، كما ورد في حديث اللّه عن المشركين الذين يعبدون الأصنام ليبرِّروا ذلك بقولهم الذي ذكره اللّه تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللّه زُلْفَى} [الزمر:3]؟[/size]
[size=33]أو يتمثّل ذلك في الامتناع عن اعتقاد الألوهية في كل ما عدا اللّه ومن عداه، لتكون القضية قضية الابتعاد عن أية ممارسةٍ عباديةٍ توحي بالمعنى الإلهي في المعبود، بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، وبذلك يلتقي التوحيد في العقيدة بالتوحيد في العبادة، حيث يتلازمان في المضمون وفي الواقع؟ ولعلّ هذا هو الأساس في أسلوب الأنبياء في الدعوة إلى التوحيد في العقيدة بطريقة الدعوة إلى التوحيد في العبادة، كما في قوله تعالى: {اعْبُدُواْ اللّه مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32].[/size]
[size=33]ربما نلاحظ أنَّ الصورة الشكلية، في ما تعارف عليه النّاس من طقوس في مظاهر العبادة، لا تمثّل ـ بمجرّدها ـ معنى العبادة، بل لا بُدَّ من أن ينضم إليها الاستغراق في الذات التي يوجَّه إليها الفعل المعين، في ما يشبه حالة الذوبان الذي يفقد الإنسان معه الإحساس بإرادته أمامها، أو في الالتفات إلى وجوده معها. ولذلك لا بُدَّ من وجود حالةٍ نفسيةٍ في مستوى الانسحاق في انطباق مفهوم العبادة عليه. وهذا ما نستوحيه في مسألة أمر اللّه للملائكة ولإبليس بالسجود لآدم (ع)، باعتبار ما يمثّله ذلك من معنى الاحترام الناشىء من الإيحاء بعظمة خلقه ـ كما هو أحد الاحتمالات في ذلك ـ فإنَّ من الطبيعيّ أنَّ اللّه لم يأمر بذلك بمعنى العبادة لآدم (ع) حتى على مستوى المظهر؛ لأنَّ اللّه لا يرضى بعبادة غيره وإن كان من أقرب خلقه إليه. ولذلك، لم يكن ردّ فعل إبليس على المسألة اعتراضاً على منافاة ذلك للإخلاص للّه وللإيمان بوحدانيته، بل اعتراضاً على أن يكون عنصر التراب أفضل من عنصر النّار، بحيث لا يتناسب ذلك مع سجود المخلوق من النّار، التي هي أقوى من التراب، للمخلوق من التراب، لأنَّ السجود يمثّل التعبير عن التعظيم، باعتبار أنه صاحب القيمة الفضلى والمستوى الأرفع.[/size]
[size=33]وهكذا، فإننا لم نجد من الملائكة استغراباً للأمر، في ما يمكن أن يحمله، حسب هذا الفرض، من المنافاة للتوحيد في العبادة.[/size]
[size=33]وهذا ما نستوحيه من سجود يعقوب (ع) وزوجته وأولاده ليوسف (ع)، وذلك قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَ} [يوسف:100] فإنَّ الظاهر أنَّ المراد منها هو سجود أبويه وإخوته له، لأنه قال ـ بعد ذلك ـ: {يأَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَـاي مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّ} [يوسف:100]؛ وكان، في ما قصّه على أبيه من رؤياه في بداية القصة، ما ذكره اللّه سبحانه: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأبِيهِ يا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لي سَاجِدِينَ} [يوسف:4]، فهل يمكن أن يكون في سجود يعقوب (ع) وزوجته وأولاده لونٌ من ألوان العبادة ليوسف (ع) الذي يعيش العبودية للّه في أعلى مواقعها، كما عاشها أبوه (ع) في هذا المستوى؟[/size]
[size=33]إنَّ المسألة هي ـ في ما يبدو ـ مسألة التقليد المتّبع في احترام صاحب العرش، الذي يملك السلطة، في السجود له، تعبيراً عن الشعور بعظمته وعن التقدير لمقامه الرفيع.[/size]
[size=33]وفي ضوء ذلك، لا بُدَّ من التدقيق في طبيعة الأشكال المتعارفة لدى النّاس، التي تلتقي ـ بشكل أو بآخر ـ بالشكليات الطقوسية للعبادة، ودراسة خلفياتها الفكرية والروحية في شخصية من يمارسها، ومعرفة التقاليد الاجتماعية في مسألة الاحترام والتقدير، في ما تعتاده المجتمعات من طرق تعبير مختلفة، لنميّز بين ما يسيء إلى التوحيد في العبادة، عندما تكون الخلفيات مرتبطةً بالاستغراق بالشخص أو الجهة، بحيث يفقد الإنسان الإحساس بوجوده معه، أو بحضور اللّه في علوّ موقعه في المعنى الإلهيّ التوحيدي فيه، وبين ما لا يسيء إلى التوحيد، لأنه ينطلق من حالة عُرفية تقليديةٍ في ما هو الاحترام والحبّ والتعظيم، لكنَّها لا تغفل عن الإحساس بعظمة اللّه في مقام وحدانيته، في ما تمارسه من أعمالٍ وأقوال.[/size]
* * *
التوحيد والشرك في الجانب التطبيقي:
[size=33]ومن خلال ذلك، يمكن لنا الإطلالة على الخلاف الدائر بين التيار الوهابي السلفي وبين المذاهب الإسلامية الكلامية الأخرى في مسألة التوسل بالأنبياء وبالأئمة والأولياء والاستشفاع بهم إلى اللّه والتبرك بقبورهم وما إلى ذلك من المفردات الطقوسية المتمثّلة في السلوك الإسلامي العام. فقد اعتبر السلفيون ـ وفي مقدمتهم الوهابيون ـ أنَّ هذه الأمور تمثّل ألواناً من العبادة لغير اللّه، وذلك من خلال ما تمثّله من الخضوع لهؤلاء، الذي هو مظهرٌ من مظاهر العبادة، ولذلك كفّروا المسلمين الذين يمارسون هذه الأعمال ونسبوا إليهم الشرك باللّه.[/size]
[size=33]لكنَّ جمهرة المسلمين من السنة والشيعة خالفتهم في ذلك من حيث المبدأ، لأنَّ مثل هذه الأمور لا تمثّل معنى العبادة في طبيعتها إذا لم ينضم إليها الاستغراق الذي يحمل معنى التألّه، في ما توحي به كلمة الشرك في العبادة الذي يرتبط بالفكرة التي ترى في الذات أو الصنم، سرّ الألوهية بدرجةٍ معينةٍ، قد تزيد وقد تنقص، تبعاً لما يمثِّله الأشخاص الصنميّون في ذلك.[/size]
[size=33]وإذا كان بعض السلفيين يوردون بعض الأحاديث الناهية عن زيارة القبور، أو يفلسفون مسألة التوسل والشفاعة من خلال بعض العناوين والمفردات العقيدية أو الشرعية، فإنَّ المسألة تتحوّل إلى التوفر على دراسة هذه الأحاديث أو تلك التحليلات على أساس الحوار العلمي الكلامي أو الفقهي، الخاضع للدراسة المعمّقة التي تضع الأمور في نصابها الصحيح. ولا بُدَّ لمثل هذا الحوار من أن يخضع للمنهج الإسلامي في مفرداته وأساليبه وروحيته القائمة على الرغبة في الوصول إلى الحقيقة، لا في تسجيل النقاط في هذه الدائرة أو تلك على الطريقة الجدلية، لأننا لاحظنا في أكثر المطارحات الدائرة في هذه القضايا، أنها كانت تتحرّك من روحيةٍ متشنّجةٍ لا من ذهنيةٍ منفتحة.[/size]
[size=33]وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نتجاوز ذلك كلّه إلى النتائج العلمية الإسلامية القائمة على الأصول الثابتة من الكتاب والسنة الصحيحة.[/size]
* * *
الحوار المطلوب:
[size=33]وربما كان من الأفضل ـ بل المتعين ـ أن يكون الحوار بين رجال المذاهب الإسلامية المتنوّعة، الكلامية والفقهية، لأنَّ ذلك هو الذي ينزع الكثير من الأوهام التي حملها هذا الفريق عن ذاك، من خلال بعض الكلمات أو بعض الممارسات، مما يمكن أن يجد لدى صاحبها تأويلاً أو تفسيراً يصل بالمسألة إلى مستوى الوضوح الكامل.[/size]
[size=33]وهذا ما يسهّل قضية التفاهم بينهم عندما يطرح كلّ واحد منهم وجهة نظره في المسألة الفقهية أو الكلامية في مواقع تقديم الحجج عليها والدفاع عنها، ما يتيح للآخر القيام بمثل ذلك، ثُمَّ اكتشاف الثغرات التي تخضع للحساب وللمعالجة على أساس القواعد الإسلامية الثابتة بشكل قطعي.[/size]
[size=33]إنَّ تأكيدنا على هذه النقطة، في خضوع الحوار للمنهج الإسلامي، وفي ممارسته بشكلٍ مباشرٍ، وجهاً لوجهٍ، ينطلق من ملاحظاتنا على تجارب الجدال بين المذاهب الإسلامية، التي قد تنسب بعض الأفكار إلى جماعاتٍ لا تقول بها، أو تبتعد عن الدقة في المفردات المتناثرة في هذا المحور أو ذاك، كنتيجةٍ لسوء الفهم، أو لإجمال الكلام، أو لبعض الرِّوايات غير الدقيقة في نقل المضمون الفكري، أو ما إلى ذلك.[/size]
[size=33]وهذا ما لاحظناه في ما نُسب إلى الشيعة الإمامية من الغلوّ في الأئمة ومن السجود لغير اللّه، في ما يأخذونه من تراب قبر الإمام الحسين (ع)، للسجود عليه في الصلاة، بحجة أنه يمثّل السجود للإمام الحسين (ع)، ومن التحريف للقرآن، وغير ذلك من الأمور التي قد يلتقي المسلمون على معرفتها بدقّةٍ ـ من خلال الحوار ـ لتصفو النظرة، وتستقيم الفكرة، وتتأكد الثقة.[/size]
[size=33]وخلاصة الفكرة في مسألة العبادة، أنها تمثّل غاية الخضوع للمعبود من حيث الشكل، في ما يعبّر عنه من وسائل التعبير القولية والفعلية بالمستوى الذي يوحي بالانسحاق أمامه، ومن حيث المضمون في ما ينطلق به العبد من الخضوع الداخلي للمعبود بحيث يستغرق في ذاته، في ما هي عبادة الذات، أو في موقعه، في ما هي عبادة الموقع ـ الرمز.[/size]
[size=33]أمّا الشرك في عبادة اللّه، فإنه ينطلق من الاستغراق في عبادة غيره من موقع التألّه، أو من موقع الإيحاء بالأسرار الإلهية الكامنة في ذاته، كما في قوله تعالى في الحديث عن منطق العابدين للأصنام: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللّه زُلْفَى} [الزمر:3].[/size]
[size=33]فقد كان الوثنيون يتوجهون إليهم بالعبادة، فيطلبون منهم حوائجهم، ويبتهلون إليهم على أساس أنهم يتقربون إليهم بذلك ليقربوهم إلى اللّه، من خلال الحظوة الذاتية لديهم عند اللّه، كما توهم الجاهليون.[/size]
* * *
بين عبادة الأصنام واحترام الأولياء:
[size=33]وهذا هو الفرق بين ما يفعله الوثنيون وما يفعله المسلمون الذين يؤكدون شرعية الشفاعة والتوسل بالأنبياء والأولياء، باعتبار أنَّ المسلمين يفعلون ذلك من موقع التوجه إلى اللّه بأن يجعلهم الشفعاء لهم، وأن يقضي حاجاتهم بحقّ هؤلاء في ما جعله لهم من حقّ، مع الوعي الدقيق للمسألة الفكرية في ذلك كلّه، وهي الاعتراف بأنهم عباد اللّه المكرمون المطيعون له الخاضعون لألوهيته {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:27] وأنهم البشر الذين منحهم اللّه رسالته في ما ألقاه إليهم من وحيه، ومنحهم ولايته في ما قربهم إليه في خطّهم العملي، فكيف يقاس هذا بذاك؟![/size]
[size=33]وإذا كانوا يعتقدون أنهم الشفعاء، فلأنَّ اللّه أكرمهم بذلك، وحدّد لهم حدوداً في من يشفعون له: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28]، فليست القضية قضية أسرارٍ ذاتيةٍ في خصائص الألوهية تتيح لهم هذا الموقع، تماماً كما هي قضية العلاقات المميّزة الخاضعة للأوضاع العاطفية أو نحوها، بل القضية قضية كرامةٍ من اللّه لهم من خلال حكمته البالغة في ألطافه بأوليائه.[/size]
[size=33]وهكذا نرى أنَّ الذهنية العقيدية لدى المسلمين لا تحمل أيّ لون من ألوان الشرك بالمعنى العبادي، كما لا يحملون ذلك بالمعنى الفكري، بل يختزنون، في دائرة التعظيم للأنبياء والأولياء، الشعور العميق بأنَّ اللّه هو خالق الكون ومدبّره، وأنَّ هؤلاء لا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً إلاَّ به، وأنَّ كلّ ما لديهم مما يعتقد النّاس أنهم يملكون التأثير فيه بشكل وآخر، هو من آثار لطف اللّه بهم في تمكنهم من ذلك بإذنه وإرادته، تماماً كما هو الإيحاء في ما تحدّث به القرآن عن عيسى (ع) في حديثه عن مواقع قدرة اللّه في ذاته، وذلك قوله تعالى: {أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّه وَأُبْرِىءُ الاَْكْمَهَ والاَْبْرَصَ وَأُحْيي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّه} [آل عمران:49].[/size]
[size=33]وإذا كان اللّه قادراً على أن يحقِّق ذلك ـ من خلالهم ـ في حياتهم، فهو القادر على أن يحقّق ذلك بعد مماتهم ـ باسمهم ـ، لأنَّ القدرة، في الحالين، واحدة في ما يريد اللّه له أن تتجلى قدرته في حركة خلقه.[/size]
[size=33]فليس في ذلك شيء من الشرك، بالمعنى الدقيق لهذا المفهوم، عندما نريد التدقيق في حدود المصطلح، وفي ما تحكم به الشريعة من أحكامٍ محدّدة على النّاس الذين ينطقون بالشهادة بالمستوى الذي لا تتسع له كلمة الكفر أو الشرك في ما يتعلّق بها من أحكام.[/size]
* * *
ضرورة التوازن:
[size=33]وإذا كنا لا نقرّ إطلاق كلمة الشرك على المسلمين الذين يتوسلون بالأنبياء والأولياء ويتبركون بقبورهم ويطلبون من اللّه أن يشفِّعهم فيهم، أو يطلبون منهم أن يشفعوا لهم عند اللّه، لأنَّ ذلك لا يعني عبادة غير اللّه، ولا يقترب ـ بالتالي ـ من أجواء الجاهلية التي كانت تدفع النّاس إلى عبادة الأصنام حتى يقربوهم إلى اللّه زلفى. إذا كنّا لا نقرّ للسلفيين ذلك، فإننا نحبّ أن نوجّه الانتباه إلى أنَّ التقاليد المتّبعة لدى العوام من المسلمين في تعظيم الأنبياء والأولياء وفي زيارة قبورهم قد تتخذ اتجاهاً خطيراً في خطّ الانحراف في التصوّر والممارسات، وذلك من خلال الجانب الشعوري الذي يترك تأثيره على الانفعالات الذاتية في الحالات المتنوّعة التي قد تدفع إلى المزيد من الممارسات المنحرفة في غياب الضوابط الفكرية التربوية، في ما ينطلق به التوجيه الإسلامي للحدود التي يجب الوقوف عندها من خلال طبيعة الحقائق الواقعية للعقيدة، لأنه لا يكفي، في استقامة العقيدة، أن لا يكون هناك دليل مانعٌ من عملٍ معيّنٍ، أو من كلماتٍ خاصةٍ، أو من طقوسٍ متنوّعةٍ، بل لا بُدَّ من الانفتاح على العناصر القرآنية للفكرة العقيدية، والأجواء المحيطة بها، والروحية المميّزة المتحركة في طبيعتها، حتى لا تختلط مظاهر الاحترام بين ما يقدَّم للخالق وما يقدَّم للمخلوق، بقطع النظر عمّا إذا كان ذلك شركاً أو كفراً، أو لم يكن. ولا سيما إذا عرفنا أنَّ الشعوب قد يقلّد بعضها بعضاً في الكثير من الطقوس والعادات في مظاهر الاحترام والتعظيم، ما قد يؤدي إلى التأثر الشعبي ببعض التقاليد الموجودة لدى بعض الشعوب غير الإسلامية التي قد تشتمل على العناصر الفكرية أو الروحية البعيدة عن فكر الإسلام وروحه.[/size]