حكم النبي في الاختلاط
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها الناس أنبئونا!
عندما يجعل النبي صلى الله عليه وسلم الرجال في المقدمة والنساء في المؤخرة، وذلك في الصلاة، وبينهما فراغ يفصل ويحجز، ثم يرغبهم في الصف الأول، فيجعلها خير صفوفهم، وينفرهم من آخرها، فيجعلها شر صفوفهم، ويعكس في حق النساء، فيجعل خير صفوفهن آخرها؛ فأبعدهم من بعض خيرهم، وأقربهم إلى بعض شرهم:
أيفهم من هذا تجويزه الاختلاط وتحبيذه، أم تحريمه ومنعه وكراهيته؟.
وإذا وجدناه يفصل ويباعد بينهما في الصلاة، التي هي محل الطاعة، والداخل بيوت الله يبتغي الطهارة لا الغواية: فهل سنراه مجيزا للتقارب بينهما والاختلاط في مواضع أخرى ليست بقداسة المساجد، مثل دور العلم أو العمل، فضلا عن النشاطات العامة؟.
خاطبوا ضمائركم بهذا، وأجيبوها بصدق؟.
ثم، لو كان الاختلاط مباحا زلالا كالماء، كما هو عند عاشقيه! فما الذي أحوج الصحابيات أن يطلبن إلى رسول الله عليه وسلم تخصيص يوم لهن للتعلم، ألم يكن أيسر وأوفر حظا لهن في العلم، أن يردن حلق الصحابة في المسجد، فيتعلمن الأيام بدل يوم في أسبوع؟.
ولو كان الاختلاط هو سمة العهد النبوي، كما يقول من يقول: ألم يكن من المظنون مبادرة النساء بالحضور إلى حلق الصحابة، حتى من غير استئذان النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك؟، أم أنهن عرفن وأدركن من النهج العام لسنته في الرجال والنساء: أنه لا حظ لهن في الاختلاط، وأن محلهن التجافي والتباعد قدر الإمكان إلا لضرورة؟.
حتى في خطب العيد، وجدناه يخطب بدل الخطبة خطبتين؛ يخطب الرجال أولاً، ثم يأتي النساء فيعظهن ويأمرهن، وهن في ناحية من المصلى غير ناحية الرجال، منعزلات مجافيات، فلم هذا رعاكم الإله، أكان هذا لو أن الاختلاط خير مباح، ما لكم كيف تحكمون؟
وقد كان صلى الله عليه وسلم يستشير أزواجه، وهذا من تقديره للمرأة، لكن لم نسمع يوما أنه أحضر عائشة أو حفصة أو أم سلمة أو أم حبيبة إلى مجالس الشورى مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من كبار الصحابة، فينظر هذا إلى بنت هذا، وهذا إلى بنت هذا.
لم نسمع بهذا حدث ولو لمرة واحدة، إنما الذي سمعناه: أنه دخل على أم سلمة في الحديبية، فاستشارها في امتناع الناس من أمره، فأشارت إليه أن يبادر هو بحلق رأسه ففعل.
حتى في مجلس الشورى الذي هو مجلس الحكماء وعلية الناس، والعقلُ والفهمُ والحكمةُ عليهم أغلب، والغواية والخفة عنهم أبعد، لم نر خَرْما لقاعدة الفصل بين الجنسين، بل تأكيدا لها، فهو يباعد مهما قدر إلى ذلك سبيلا، وما عجز عنه خفف منه قدر ما يمكن.
فماذا لدينا حتى الآن؟.
لدينا أربعة مواطن، متعالية عن الريب والظنون والتهمة والغواية، هي: الصلوات، وصلاة العيد وخطبته، وحلق العلم ومجالس الشورى. في هذه كلها السنة النبوية مطردة متماثلة لم تختلف قيد شعرة، أهدرها كلها طلاب وعاشقوا الاختلاط، فتعلقوا بخيوط هي أوهن من بيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
فالمواطن التي يمكن فيها الفصل، نرى حكما صارما بالتباعد البيّن الظاهر، فماذا عن المواطن التي يتعذر فيها ذلك، كالطرقات والمسجد الحرام؟.
حتى هذه رأيناه يفصل بينهم بقدر ما يمكن، يقول للنساء وهن يمشين في الطرقات: (ليس لكن أن تحققن الطريق)؛ أي السير في وسط الطريق: (عليكن بالحافات)، فكان ثوبها يعلق بالجدر، امتثالا للأمر النبوي.
ويأمرهن استحبابا أن يطفن من وراء الرجال، فطافت أم سلمة في حجها كذلك، وكذلك عائشة، وفي زمن الصحابة كن يطفن ليلا، وفي أحوال يخرج الرجال، ليخلو المطاف لهن.
أليس كل هذا بكاف لندرك سنة النبي صلى الله عليه وسلم في العلاقة بين الجنسين، أم لايزال بعضنا في شك وريب من أمره، فهو يريد أصرح مما هو صريح، ليؤمن كإيمان فرعون حين أدركه الغرق؟!
نحن نعلم أنهم يقولون: ومداواتهن الجرحى، وخدمة العروس للرجال، وأكل المرأة الطعام مع الضيف، ووضوء الرجال والنساء جميعا. فهذه كلها لم تكن إلا في ظل اختلاط مباح.
نعم، وكلها آثار صحيحة، ظاهرها تسويغ الاختلاط، لكن ما هكذا يدرس المرء السنة والكتاب، وإلا أبطل دين الله جملة وتفصيلا، فالأدلة المتعارضة نجدها في كل مسألة، فليس لنا أن نتخير فنقدم شيئا على شيء إلا بدليل، فتعالوا بنا ننظر في الآثار التي تبيح الاختلاط.
فأولاً: لنعلم أن تحريم الاختلاط لم ينزل في أول البعثة في مكة، إنما نزل في المدينة، نزل عندما جاء أمر النساء بالحجاب، ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة. فمنذ ذلك الحين منعت النساء من السفور ومن الاختلاط، أما قبل ذلك فكانوا يختلطون والمرأة سافرة، وعليه: فالاستدلال على جواز الاختلاط بأحوالهم قبل الحجاب، هو كالاستدلال على جواز سفورها وتبرجها بأحوالها قبل نزول الأمر بالحجاب!. والسفور والاختلاط قرينان، وانظر في حال الجاهلية، والحجاب والفصل بين الجنسين قرينان، وانظر في المؤمنين. فالحجاب قصد به حفظ المرأة من نظر الرجال، والاختلاط محضن النظر ومولِّده وراعيه؛ لذا منع منه كما تقدم في الآثار النبوية، فلا يستقيم نهي عن النظر، وإباحة أكبر ذرائعه الاختلاط.
وثانيا: فكل فقيه يعلم أن الضرورة تبيح المحظورة، لكن الضرورة لا يؤخذ منها حكم أبدي دائم، فأكل الميتة جائز لمن خاف الموت، لكن لا يقال إن أكل الميتة جائز على الدوام؛ لأنه أبيح الأكل منه حين الضرورة، هذا جهل بالغ، وهو ما يقوله من يحتج على جواز الاختلاط، بـ: أنها كانت تخدم وتداوي الجرحى!.
فإنه بالاتفاق أنها خرجت للحروب في العهد النبوي ضرورة لقلة الرجال، ولم تكن العادة خروجها؛ لذا لما استغني عنها بكثرة الرجال في حروب لاحقة، امتنعت عن الخروج.
فما في النصوص من إباحة الاختلاط، فإنما هي لأحوال استثنائية لضرورة، أو أحوال يتعذر فيها الفصل والتباعد، كمثل الأسواق والطواف والطرقات، فإذن الشارع بذلك كان تيسيرا، لالكي يستفاد منها تجويز الاختلاط في: المدارس والجامعات، والوظائف والنشاطات. ففرق بين اختلاط عفوي غير مقصود، يتعذر الامتناع منه، واختلاط منظم مقصود، يمكن تلافيه، فهذا محرم عند العلماء كافة إلى ثلاثة عشر قرنا.
وثالثا: فإن بعض ما يحتج به من يجيز الاختلاط ليس محل النزاع أصلا، كخدمة أم أسيد - وهي عروس- الرجال بتقديم الطعام، فما فعلته ليس هو الاختلاط المحرم، بل هذا من العفوي غير المقصود، وهذا يحدث لو أن البيت عدم الخادم، فدخلت المرأة في حشمتها وحجابها فقدمت للضيف طعامه ثم خرجت، فلم يحرم هذا أحد من أهل العلم ولو كرهه بعضهم، إنما المحرم أن تخالطهم، فتجلس إليهم كما يجلس إليهم زوجها، كلما دخلوا.
ولا نذهب في سرد الأدلة الناقضة لقول من أباح، فإن تصور أدلة التحريم كافية في فهم مسلك الشارع في العلاقة بين الجنسين، فإن من تأملها أدرك أنها تؤصل لمنع الاختلاط، لكن كسائر الأحكام حين تعرض على أحوال الناس، فإنها تتوافق حينا، وتتعارض حينا، فتعارضها لا يعني أنها مبطلة لحكمها ناقضة، وإلا كانت أحوال الناس هي الحكم وهي المرجع في التشريع، وليس ما نزل من عند الله تعالى، وهذا أبطل الباطل.
إن الاختلاط في هذا العصر من المؤرقات، وكثيرون يجادلون فيه يهلكون أنفسهم، وكثيرات ينافحن عما فيه بلاؤهن وذلهن، وآباء يدفعون بناتهم إلى محاضنه متذرعين بالثقة متغافلين عن الغريزة الجنسية، التي هي كغريزة حب الطعام، وأرباب عمل يوظفونها متعللين بالحاجة والإكراه، وكل هؤلاء يسهمون بجزء من مشكلة كبرى، تظهر آثارها المدمرة لاحقا قريبا، كما ظهرت في مجتمعات أخرى، فانظروا فيها، واقرؤوا عن تجربة الاختلاط في البلاد العربية والأوربية والأمريكية، تعرفوا أي طريق يسير فيه الناس بلا وعي.
فإن قلنا: نحن مسلمون. فقد سبقتنا بلاد مسلمة فما سلمت، فكل والد ووالدة يلعنون اليوم الذي دخل عليهم فيه هذا الوباء الوبيل، الذي أخذهم على حين غرة وهم في حالة سفه وخفة من عقولهم، حين كانوا يتكلفون استنباط محاسن ومآثر للاختلاط، أو يتعللون بالحاجة والضرورة، وما كانوا حقيقة إلا خاضعين منساقين لخطوات الشيطان الرجيم، فهم اليوم يعلمون ذلك ولات حين ندامة.
لمن لم يقنع بكل ما سبق من دلائل وبراهين، نقول له: لعلك أسأت فانتهكت حرمة، أو لعلك من المجاهرين بالذنب، فعوقبت بمثل قال تعالى: {أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا}.
اعداد الصفحة للطباعة
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
د.لطف الله خوجة
محمد صلى الله عليه وسلمالمرأةالتصوفالرقاقالآخرمعالجةوصيةقطرة من الروحالصفحة الرئيسية